سورة المرسلات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المرسلات)


        


{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً}.
ما المرسلات؟
اختلف المفسرون في معنى المرسلات، وتعددت مقولاتهم فيها، وكثرت الروايات والأسانيد التي تضاف إلى صحابة رسول اللّه في هذا المقام.. وهذا الاختلاف الشديد بين تلك المقولات، مما يضعف هذه الروايات، بل ويكذب نسبتها إلى من نسبت ادعاء إليهم.. إذ لو كانت صحيحة لما كانت إلا قولا واحدا.. لأن صحابة رسول اللّه لم يقولوا في تأويل كلام اللّه برأيهم، بل كل ما صحت نسبته إليهم من أقوال في معنى حرف، أو كلمة، أو آية، هو مما علموه من رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه.. وليس للرسول الكريم إلا قول واحد. في المقام الواحد.. {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} [3: النجم].
وعلى هذا. فإن ما نقوله أو يقوله غيرنا في تفسير كلمة {المرسلات} هو اجتهاد في تحرى أقرب المفاهيم التي يطمئن إليها كل مفسر، حسب ما أداه إليه اجتهاده.. وهنا لا بأس أن يختلف المفسرون، إذ ليس قول أحدهم حجة على الآخرين.. وذلك على خلاف ما إذا نسب التفسير إلى أحد من صحابة رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، فإنه إذا ثبتت نسبته إليه كان حجة علينا.
والرأى الذي نرتضيه من آراء المفسرين في تفسير كلمة {المرسلات} هو القول بأنها الرياح، فقد جاءت كلمة {العاصفات} بعدها قرينة قوية على أنهما من مورد واحد، وإن اختلفا قوة وضعفا.
فقد جاء في القرآن الكريم وصف الريح بهذا الوصف، فقال تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً} [81: الأنبياء].. والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض.
وهناك قرينة أخرى، وهى أن القرآن الكريم قد أكثر من لفظ أرسل، ويرسل عند الحديث عن الرياح، كما يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [57: الأعراف] وقوله سبحانه: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} [22: الحجر] وقوله تبارك اسمه: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ} [69: الإسراء].
فقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} هو قسم بالرياح المرسلة من عند اللّه، في هبوب دائم، على الوجه المعروف للناس من الرياح.
وقوله تعالى: {فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً}.
هو حال من أحوال الرياح، حين يشتدّ هبوبها، فتتحول إلى عواصف.
وقوله تعالى: {وَالنَّاشِراتِ نَشْراً}.
هى الرياح في حال أخرى من أحوالها، ومع أثر من آثارها، وهى حين تنشر السحب في جو السماء، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} [48: الروم].
وقوله تعالى: {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً}.
هى الريح أيضا وأفعالها بالسحب.. فهى بعد أن تبسطها في السماء، تسوقها أمامها، وتذهب بها إلى مواقع مختلفة متفرقة من الأرض، بعضها شرقا، أو غربا، وبعضها شمالا أو جنوبا.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ} [43: النور].
وقوله تعالى: {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً}.
هى السحب الممطرة، التي تلقى بما حملت من ماء، على المواقع التي ساقها اللّه سبحانه وتعالى إليها.
ويسمى المطر {ذكرا} لأنه مما يذكر باللّه سبحانه وتعالى، ويحدّث عن واسع فضله، وعظيم رحمته، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [48: الشورى].. وقوله سبحانه: {وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [49: الروم] فأنظار الناس وآمالهم متعلقة بالمطر، في حال إمساكه، أو حال نزوله، لأن فيه حياتهم، وحياة حيوانهم وزروعهم.
وقوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً}.
هو بيان لقوله تعالى {ذكرا}.
فهذا الذكر الذي يحدثه المطر، إما أن يكون إعذارا، أو إنذارا.. فهو إعذار للمؤمنين الذين غفلوا عن ذكر اللّه سبحانه وتعالى، وهو إنذار للكافرين الذين لا يذكرون اللّه أصلا.
وقوله تعالى: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ}.
هو جواب هذا القسم الذي أقسم اللّه سبحانه وتعالى به في مفتتح السورة.
والذي يوعد به الناس، هو يوم القيامة، وما يلقون فيه من جزاء.
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أنه فرق بين الرياح في مهابّها على الأرض، وبين الرياح في مدارها مع السحاب، في طيّه ونشره، وفى سوقه وتوجيه مساره.
فيقسم سبحانه وتعالى أولا بالرياح على إطلاقها وعمومها،: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} ثم يعطف على هذه الرياح حالا من أحوالها العارضة، وهى العواصف:
{فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً}.
ثم يقسم سبحانه وتعالى قسما آخر بالرياح، وهى تنشئ السحاب وتنشره: {وَالنَّاشِراتِ نَشْراً} ويعطف على هذه الرياح- صور مواليدها التي تولّدت عنها، من سحب متفرقة، ومن غيوث هاطلة: {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً}.
وفى القسم بالرياح وآثارها، إلفات إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أن تلك القدرة التي سخرت هذه الرياح، وأودعت فيها ما أودعت من أرواح سارية، يستمد منها الأحياء حياتهم، ويلتقطون أنفاس الحياة منها، ثم لا تقف عند هذا بل تسوق إليهم مادة الحياة وقوامها، من هذا الماء الذي يتحلّب من السحاب المتولد عنها، والمنشّأ على يديها- هذه القدرة لا يعجزها أن تبعث الموتى من قبورهم، وأن تحشرهم يوم القيامة للحساب والجزاء: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ}.
فمن كذب بهذا الوعد استبعادا له، وإعجازا لأية قدرة أن تحققه- جاءه من عالم الرياح شهود عدول، يدينونه ويفضحون مدعياته الباطلة.


{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}.
وإذ تقرّر أن يوم الفصل آت لا ريب فيه، وأن ما يوعد الناس به في هذا اليوم واقع لا محالة- إذ تقرر هذا جاءت الآيات لتعرض صورا من مشاهد هذا اليوم، وما يقوم بين يديه من إرهاصات.
فمن إرهاصات هذا اليوم التي تتقدم وقوعه، أن تطمس النجوم، أو يذهب ضوءها، فلا تراها العيون على ما عهدتها عليه من قبل في هذه الدنيا.
وأن تنشق السماء، فلا ترى سقفا مصمتا مغلقا كما تبدو للناظرين اليوم:
{وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً}.
وأن تضيع معالم الجبال، فلا يرى لها على وجه الأرض ظل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً}.
(105- 107: طه) وقد أشرنا في غير موضع من تفسيرنا: التفسير القرآنى للقرآن- إلى أن تغير هذه المعالم الكونية يوم القيامة- إنما هو نتيجة لتغير موقف الإنسان منها، وما يطرأ على حواسه المتلقية لها من تغير.. أما هذه المعالم في ذاتها فهى باقية على ماهى عليه.. ومن إرهاصات يوم القيامة أن تؤقت الرسل، أي يؤجل بعثها إلى الناس، فلا يبعث فيهم رسول.. وهذا يعنى أننا منذ بعثة الرسول محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ونحن على مشارف هذا اليوم الموعود، إذ كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- خاتم رسل اللّه، وأن لا نبى بعده.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار- صلوات اللّه وسلامه عليه- بأصبعيه: السبابة والوسطى.
ويجوز أن يكون المراد بالرسل هنا- واللّه أعلم- العقول الرشيدة، والفطر السليمة في الناس، حيث أن مع كل إنسان رسولا إلى نفسه، هو عقله، وفطرته.
فإذا انتهى الأمر بالناس إلى أن تضل عقولهم جميعا عن الحق، وأن تزيغ قلوبهم جميعا عن الهدى، فلم يبق فيهم مؤمن باللّه، قائم على شريعته- كان ذلك إيذانا بقرب يوم القيامة، وإرهاصا من إرهاصات وقوعه، ويكون معنى توقيت الرسل هنا، تعطل العقول عن عملها، ووقوع الخلل والفساد في الطبيعة البشرية وتنكيسها في الخلق.
ومما يشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ماورد في الآثار من تبدل أحوال الناس بين يدى نفخة الصور الأولى، وانتكاس طبيعتهم، كما يشير إلى ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «بدأ الدين غريبا، وسيعود كما بدأ.. فطوبى للغرباء» وقوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} هو سؤال وارد على الخبر في قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي إلى أىّ يوم هذا التوقيت، أو التأجيل للرسل؟ فكان الجواب:
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} أي ليوم القيامة.. فهو غاية لتأجيل الرسل، وتعطيل عملهم.
والسؤال هنا هو: وهل إذا كان تأجيل الرسل أو تعطيل عملهم غايته هو يوم القيامة، فهل إذا جاء يوم القيامة ينتهى هذا التوقيت، ويعود الرسل إلى مكانهم في الناس؟
والجواب: أن نعم وعلى كلا الرأيين الذين ذهبنا إليهما.
فإن رسل اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليهم- سيظهرون مرة أخرى مع أقوامهم في مشهد الحساب والجزاء، يشهدون على أقوامهم، وما كان منهم من استجابة لهم، أو خلاف عليهم، وتكذيب بهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء] وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟} [109: المائدة].
أما العقول التي ضاع رشادها، والقلوب التي عميت بصيرتها- فإنها تجىء يوم القيامة وقد انكشف الغطاء عنها، فترى الأمور رؤية كاشفة، وتعرف الحقّ واضحا مشرقا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق] قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ} يوم الفصل، هو يوم القيامة، الذي يفصل فيه سبحانه وتعالى بين الناس.
والاستفهام يراد به تهويل هذا اليوم، وما يقع فيه من أحداث، لا يمكن أن تتصورها الأوهام، ولا أن تحيط بها العقول.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو جواب الشرط إذا في قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} وما عطف عليه.
والويل: هو الهلاك والبلاء المبين.. وهو وعيد للمكذبين بهذا اليوم، حيث لم يعدّوا أنفسهم له، ولم يعملوا حسابا للقائه.. {إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً} [27: النبأ].


{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو مواجهة للمشركين للمكذبين بيوم الفصل، وتهديد لهم بالهلاك الدنيوي، وأخذهم بما أخذ اللّه به المكذبين من قبلهم في الأمم السابقة، بعيدها وقريبها.
والأولون الذين أهلكهم اللّه، هم قوم نوح، وعاد، وثمود.. والآخرون هم من جاءوا بعدهم، كقوم فرعون، وقوم لوط.
والمراد بالاستفهام هنا، التقرير، واستنطاق الواقع الذي شهدته الحياة، وسجله التاريخ.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} هو تعقيب على هذا التقرير.
أي كما فعلنا بالأولين، وألحقنا بهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، في كل أمة، وفى كل جيل.. فهذا هو حكم اللّه في أهل الضلال، لا استثناء فيه.. وفى هذا إشارة إلى المشركين الذين يواجهون النبي بعنادهم وضلالهم، ويركبون نفس الطريق الذي ركبه الضالون من الأولين والآخرين قبلهم.. فالويل لهم يومئذ من عذاب اللّه المرصود لكل مكذّب بهذا الحديث.
قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ؟} هو دعوة إلى هؤلاء الضالين المكذبين من المشركين، أن يعيدوا النظر في موقفهم من إنكار البعث، وتكذيبهم به، واستبعادهم له، حتى يخلصوا بأنفسهم من هذا الويل المطلّ عليهم، فتلك هى فرصتهم الأخيرة، فإن لم يبادروها ويصححوا موقفهم فيها، أقلعت سفينة النجاة، وتركتهم يغرقون في هذا الطوفان المقبل عليهم!! فهؤلاء الذين يستبعدون البعث، ويستعجزون قدرة اللّه عن إعادتهم إلى الحياة بعد الموت- ألم يخلقهم اللّه من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب؟
والماء المهين، هو ماء الرجل، وهو المنىّ الذي يتخلق منه الجنين في رحم الأمّ.
ووصف الماء الذي خلق منه الإنسان بأنه مهين- إشارة إلى أنه في ظاهره شيء لا وزن له في مرأى العين، بل هو شيء مستقذر، لا يحرص عليه الإنسان.
قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.
أي أن هذا الماء المستقذر المهين، قد جعله اللّه سبحانه وتعالى، ماء مصونا محفوظا {فِي قَرارٍ مَكِينٍ} هو رحم الأم.
إن هذا الماء المهين إذن، ليس كما يبدو في ظاهر الأمر شيئا محقرا، أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو في حقيقته حياة، تضم في كيانها هذه المخلوقات البشرية.. إنه الناس، في صورهم وأشكالهم.. إنه صورهم المضمرة، ووجودهم المستور.. ولهذا صانه اللّه سبحانه وتعالى، وأودعه هذا القرار المكين الذي أعده له.
وقوله تعالى: {إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ}.
متعلق بقوله تعالى: {فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ} أي أن هذا المستودع الذي أودع فيه هذا الماء، لا يمسك هذا الماء إلا إلى زمن محدود، وغاية ينتهى إليها، وهى مدة حمل الجنين في رحم الأم، من استقرار النطفة فيه إلى خروجها منه بشرا سويّا.
وقوله تعالى: {فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي فقدرنا بقدرتنا وحكمتنا مسيرة هذه النطفة في الرحم، وتنقلها فيه من طور إلى طور، وذلك بقدر معلوم، وتقدير موزون، وحساب محكم دقيق.
وقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} هو ثناء من اللّه سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة، التي لا يحسن الثناء عليها، ولا يوفيها حقّها، إلا هو سبحانه وتعالى، وفى هذا يقول الرسول الكريم، في تمجيد ربه والثناء عليه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
وفى هذا الثناء من اللّه سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة- إشارة إلى أن هذا الإبداع في الخلق، والإحكام في التصوير، مشهد يقف الوجود كله مبهورا أمام جلاله وروعته، ثم لا يجد من صيغ الثناء ما ينطق به في هذا المقام، فكان صمته أبلغ من كل كلام، وكانت حجته على الصمت، أن نطق أحكم الحاكمين رب العالمين.. فليس بعد قول اللّه قول، ولا بعد ثنائه ثناء! فالويل يومئذ لمن كان لا يرجو للّه وقارا، ولا يعرف لجلاله قدرا! قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً}.
هذا مشهد آخر من مشاهد قدرة الخالق جلّ وعلا.
فإذا عميت بعض البصائر عن أن ترى مسيرة هذه النطفة الصغيرة، وأن تشهد ما انطوت عليه من حياة، وما تفجر منها من مخلوقات- فإنها تستطيع أن تنظر إلى كائن آخر، أكبر حجما من هذه النطفة.. إنه الأرض!! الأرض كلها بما على ظهرها، وما في بطنها.
فماذا يرى من هذه الأرض، ظاهرا أو باطنا؟
إنها النطفة.. مكبرّة!! إنها حياة وموت.. في وقت معا.
إنها حياة منطلقة من موات، وموات يتخلف من حياة.
إنها رحم كبير، يتفتح لنطف الماء الذي يتحلب عليه من السحاب!- {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [5: الحج].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [27: السجدة].
{أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا} [25- 31: عبس].
ومعنى {كفاتا} أي مستودعا.. يقال: كفت الشيء، أي ضمه إلى نفسه، مثل كفله.
وقوله تعالى: {أَحْياءً وَأَمْواتاً} عامل النصب في أولهما فعل محذوف، مفهوم من قوله تعالى: {كفاتا} أي مستودعا يضمّ أحياء وأمواتا.. ويجوز أن يكون عامل النصب هو {كفاتا} بمعنى ضامّة أحياء وأمواتا.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو إشارة إلى الجبال التي تبرز على وجه الأرض عالية شامخة، تهول، وتروع، وتحدّث عن عظمة الصانع العظيم الذي أقامها.
وقوله تعالى: {وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} أي ماء عذبا، زلالا، هو بعض هذا الماء الملح، الذي على كثرته لا تقوم عليه حياة الإنسان.. أفبعد هذا تكذبون بالبعث، وتنكرون يوم الجزاء؟ فالويل لكم من هذا الضلال الذي أنتم غارقون فيه.. أيها المكذبون!

1 | 2